يونس جنوحي يكتب..الترهيب و«التعريب».
جنوحي
الخوض في مسألة التعريب، رغم أنه كان صحيا في فترة من الفترات، إلا أنه أصبح الآن مثل التداول في أمر أسبقية الدجاجة والبيضة.
مع احترامنا لكل الرموز الوطنية السابقة التي خاضت في المسألة، إلا أن انطلاق نقاش مسألة التعريب بدأ في «صندوق» مغلق أملته الظرفية التي كان يمر بها المغرب، قبل 85 سنة. نعم.
ما لا يعرفه الذين يخوضون اليوم في مسألة تعريب التعليم، مناصرين ومعارضين، من سبّ للمدرسة العمومية والاستهزاء أحيانا باللغة العربية، أو تحقير الفرنسية، أن عشرة شبان مغاربة في شتنبر 1934، أسسوا «لجنة العمل المغربي»، واختاروا لها الاسم الفرنسي. أي: La comité d’action Marocaine.
هذه اللجنة تولت برنامج إصلاحات باللغتين العربية والفرنسية. المثير أن النسخة العربية طُبعت في القاهرة وليس في المغرب، بينما طبعت النسخة العربية هنا وقُدمت لوزارة الخارجية الفرنسية في باريس وممثلي الإدارة الفرنسية في المغرب. حتى أن علال الفاسي شخصيا، أخذ على عاتقه مهمة تسليم بعض النسخ لمسؤولين فرنسيين في الرباط.
هؤلاء العشرة كانوا هم عمر بن عبد الجليل، الذي ينحدر من عائلة فاسية وثقافته فرنسية خالصة، حتى أن أخاه هو «جان» الشهير الذي كان أول مغربي يجهر بترك الدين الإسلامي واعتناق المسيحية. ثم محمد بن الحسن الوزاني، مؤسس حزب الشورى، وكان وقتها لا يزال في نواة الحركة الوطنية ويرافق علال الفاسي قبل أن تتفرق بينهما السبل. الوزاني كانت ثقافته الفرنسية ممتازة ويتقن اللغتين العربية والفرنسية معا، وكان له دور كبير في صياغة مواد لائحة الإصلاحات. بالإضافة إلى محمد الديوري، وكان أيضا يتحدث الفرنسية بطلاقة بحكم احتكاكه بالفرنسيين والأمريكيين بمدينة القنيطرة التي كان يشتغل بها. ثم عبد العزيز ابن ادريس، الذي كان لا يتقن الفرنسية، ومحمد الشرقاوي ومحمد المكي الناصري، الذين كانوا يمثلون تيار المحافظين المغاربة ولا تربطهم باللغة الفرنسية أية علاقة..
كان هؤلاء أبرز العشرة الذين تقدموا بلائحة الإصلاحات، وكان مشروعهم تقدميا ولا يمكن للأسف مقارنته مع ما يمكن أن تنتجه النخب المغربية اليوم.
نحن على حافة إفلاس علمي خطير. وصلنا إلى قاع المستنقع كما كان يقول محمد الوزاني سنة 1956. كانت هذه الإصلاحات تدافع عن الهوية المغربية ومكانة اللغة العربية التي كانت فرنسا قد محتها تماما من الإدارات. هذه الإصلاحات المقترحة كانت تهم أيضا الجانب الاجتماعي.
السؤال الذي نريد طرحه هنا، هو هل يتوفر حزب الاستقلال اليوم على نسخة من هذا البرنامج؟ بل هل يعرف الاستقلاليون بوجوده في أرشيف علال الفاسي أصلا؟
أما بقية الفرقاء السياسيين اليوم فيتناولون مسألة التعريب بدون أية قناعة فكرية. هاجسهم هو تدريس أبنائهم في مدارس البعثة أو المدارس الخاصة التي تضع أسعارا فلكية مقابل التسجيل، ثم تنويم الفئات الشعبية والفقيرة بخطاب الانتصار للغة الأجداد.
الفرق بين الأمس واليوم أن النخب السياسية كانت قادرة على التفكير، وتحمل هم الهوية المغربية وتجلس لصياغة المشاريع، قبل أن تفرق بينهم السبل ويرتكب بعضهم مذابح في حق البعض كما وقع بين الشوريين والاستقلاليين. فقبل 85 سنة لم يكن هناك أي نقاش عن التعددية السياسية وكان مشروع الحزب بالكاد يرى النور، لكن الكل كانوا منهمكين في البحث عن شرعية سياسية لمفاوضة الفرنسيين وفرض كلمة المثقفين في ساحة تسيطر عليها فرنسا بالكامل.
تم التضييق على الوزاني فتراجع عن المشروع، بينما علال الفاسي كان ملاحقا بسبب تحركاته ففضل الهروب خارج المغرب وتوجه إلى إسبانيا لفترة، وعندما عاد كان منشغلا بحروب سياسية أخرى، ربما أنسته مسألة المشروع المشترك الذي كان من بين بنوده الدفاع عن هوية المدرسة المغربية وتحديثها دون أي تدخل فرنسي.
الذين يستهزئون اليوم باللغة العربية لا يعرفون أنها في الأصل لغة علم. يجب فقط أن تكون هناك قناعة لاستعمالها في تحصيل العلوم، إذ أن أبرز علماء الرياضيات والطب كانوا عربا أمثال ابن رشد والخوارزمي الذي لا تزال اكتشافاته الرياضية تستعمل إلى اليوم.
إذا كانت هناك نية اليوم لجعل التلاميذ والطلبة المغاربة يلحقون بالعالم، فالحل هو أن تدرس العلوم باللغة الإنجليزية. إذ أن أزيد من ثلثي المقالات العلمية التي تنشر سنويا، تُنشر باللغة الإنجليزية، بينما نسبة الإصدارات الفرنسية، نخجل حتى ذكرها مقارنة مع نسب إصدارات ثقافات أخرى في مجال العلوم.
الذين يدعون إلى فرنسة التعليم، أو حتى تعريبه، دون خلفية ثقافية وعلمية حقيقية، لا يجب حتى أن نحترم رأيهم. هؤلاء هم الأثرياء الجدد الذين اغتنوا بالسياسية أو بالريع السياسي على الأصح. لديهم خوف كبير من المستقبل، لذلك يدرسون أبناءهم في مدارس البعثة ويصرفون عليهم كل يوم لكي يكونوا قادرين على الهروب من بلد يعتقدون أنه سيغرق في أية لحظة. هذا هو الفرق بين الأمس واليوم.